بات من المعروف دور الظروف السياسية والاقتصادية التي عاشتها مجتمعات المشرق العربي مع نهاية القرن التاسع عشر في إلجاء العديد من أبنائها إلى سلوك دروب الهجرة نحو العالم الجديد، في الأمريكيتين، والتي استمرت على شكل موجات، وحالات فردية، بقدر ما كان يسجل تدهور في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتحت الضغوط التي خلفها انخراط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وبدء الاستعمار الأوروبي، وما تلا ذلك من وقائع وأحداث جعلت من مشرقنا بيئة طاردة لأهله، ومن الهجرة ملاذاً للنجاة بالنفس من ناحية، أو لكسب لقمة العيش، وحتى الارتقاء في المكانة الاجتماعية من ناحية ثانية.
كانت البرازيل من الأماكن التي شكلت مقصداً للمهاجرين في وقت مبكر. ولكن ما تكشفه مصادر برازيلية، يؤشر إلى عامل آخر، ربما كان له دور في توجه المهاجرين العرب نحو البرازيل بالذات. يتصل الأمر هنا بما يمكن اعتباره "دعوة إمبراطورية" إلى البلاد الخضراء.
في عام 1871م، قام امبراطور البرازيل "دوم بيدرو الثاني" بزيارة إلى مصر وبعد ذلك بسنوات وصل إلى لبنان وسوريا وفلسطين عام (1876). في تلك الزيارة، نزل الامبراطور في بيروت، ترافقه زوجته وحوالي مائتين من الشخصيات البرازيلية، قادماً من اليونان عن طريق البحر. وقد زار الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية اليوم) وكذلك بكركي وبعلبك وضهر البيدر وشتورا، وقضى ليلة في زحلة، ليوجه في ختام رحلته رسالة إلى الجمهور داعياً إياهم "للحلول أهلاً والوطوء سهلاً" في ربوع البرازيل.
وسواء هاجر عرب المشرق نتيجة ظروف السياسة والاقتصاد أو تلبيةً لدعوة الامبراطور، فإنهم اليوم يشكلون 5% من مجموع مائتي مليون برازيلي. أي ما يقارب العشرة ملايين مواطن برازيلي كاملي المواطنة. وينتسب إليهم رئيس الجمهورية "ميشيل تامر" ورئيس بلدية ساو باولو، أهم المدن البرازيلية، "فرناندو حداد". فضلاً عن العديد من الشخصيات التي لعبت دوراً في تاريخ البرازيل وتلعب دوراً اليوم في حاضرها، في ميادين السياسة والاقتصاد والعلوم والثقافة.
إلى البرازيل مرة أخرى
بكل الأحوال، لعل التاريخ يكرر نفسه مجدداً ليبين لنا أن سببين مجتمعين كانا وراء وصول موجة جديدة من العرب إلى البرازيل، فقد أدت المعاناة السياسية والأمنية والاقتصادية التي يعيشها الملايين في عموم البلاد العربية منذ ستة أعوام وما زالوا، إضافة إلى "برنامج التأشيرات الإنسانية" البرازيلي الذي بدأ منذ عام 2013، (مُجدِداً الدعوة الامبراطورية السابقة)، إلى قيام عدة آلاف من السوريين وعدة مئات من الفلسطينيين اللاجئين في سوريا وغيرهم بطرق أبواب البرازيل مرة أخرى.
توجه هؤلاء إلى السفارات البرازيلية في دول المشرق العربي، وحصلوا على تأشيرة دخول إنسانية إلى البلاد بشروط ميسرة جداً. فبعد إنجاز مقابلة سريعة والتحقق من الأوراق الثبوتية غالباً ما يتم منح اللاجئ تأشيرة إنسانية تسمح له بالوصول إلى البرازيل دون خوض غمار البحر أو اللجوء إلى شبكات التهريب.
صدر البرنامج الإنساني في العام 2013 في شكل إعلان من "اللجنة الوطنية لشؤون اللاجئين في البرازيل" (كوناري CONARE)، وهو يقضي بمنح "تأشيرة خاصة للسوريين ورعايا الدول الأخرى المتضررة من الصراع السوري والذين يرغبون في طلب اللجوء في البرازيل". حيث قال "بيتو فاسكونسيلوس"، رئيس "الكوناري"، إن برنامج تأشيرات الدخول الخاصة هو برنامج ضروري بسبب “الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان” في سوريا التي مزقتها الحرب. وقال بأن هذا البرنامج “يستجيب لمنطق الحماية لأسباب إنسانية ويأخذ بعين الاعتبار الصعوبات الخاصة في مناطق الصراع”.
مباشرةً، حاز البرنامج على ترحيب "المفوضية العليا لشؤون اللاجئين". وبالفعل وصل ما يزيد على مائتي لاجئ من سوريا حتى نهاية العام 2013. وحصلوا على بطاقات إقامة بشكل سريع جداً، في استثناءٍ شملهم دون غيرهم. ففي عامة الأحوال تتطلب دراسة طلب اللجوء حوالي عامين من قبل "الكوناري" لتتم الموافقة على طلب اللجوء أو رفضه بعد إجراء مقابلة مع طالب اللجوء. أما اللاجئون من سوريا فقد نالوا جميعاً الموافقة على طلباتهم في وقت لم يتجاوز ستة أشهر في أسوأ الأحوال (بقي الوضع كذلك حتى تشرين أول/ أكتوبر من العام 2015) وبالتالي تحصلوا على بطاقات الإقامة، وشملتهم الخدمات الحكومية البرازيلية في مجالي الصحة والتعليم المجانيين بالكامل لكل من يقيم على الأراضي البرازيلية. كما استطاعوا الحصول مباشرة على إذن بالعمل والحق في ممارسة نشاطات تجارية وفتح حسابات بنكية.
هذه التسهيلات كانت غير مسبوقة في البرازيل. ولم يتطلب الحصول عليها اجتياز مغامرة بحرية عبر "بلمات" البحر المتوسط، والتي تحمل من مخاطر الموت أكثر مما تحمل من فرص النجاة. ولم يحظَ بها حتى المهاجرون العرب القدامى الذين عانوا الأمرين وقاسوا بشدة حتى تحصلوا على أوراقهم القانونية بالحد الأدنى، ولكل منهم حكاية طويلة عن رحلة عذاب تبدأ من ميناء بيروت البحري وصولاً إلى ميناء سانتوس في البرازيل. لتستمر أثناء السعي الدؤوب للحصول على لقمة العيش في بلادٍ تمتد على ما يزيد عن ثمانية ملايين كيلو متر مربع، وتعتبر الأكبر بين دول أمريكا الجنوبية، دون أن يمتلكوا تصاريح عمل أو إذن إقامة لمدة طويلة تجاوزت في بعض الأحيان سنوات خمس. واستمرت هذه المعاناة رفقة من تبعهم من مهاجري أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وكذلك مع من وصل إلى البلاد من فلسطينيين في الخمسينيات والستينيات، أو لبنانيين في السبعينيات والثمانينيات، وسوريين في التسعينيات بحثاً عن فرصة في الحصول على حياة أفضل.
تدفق وتعثر
أمام التعاطف الإنساني البرازيلي تجاه لاجئي حرب، اندفع عدة آلاف من اللاجئين المتضررين من الصراع في سوريا، إلى أبواب السفارات البرازيلية طالبين الوصول إلى الملجأ الدافئ دون تجشم عناء المخاطر وبأسلوب قانوني. آخذين في الحسبان أن كلفة انتقال عائلة مؤلفة من خمسة أشخاص من إحدى دول الشرق الأوسط إلى البرازيل جواً تبقى أقل من تكلفة مخاطرة شخص واحد عبر البحر في مغامرة "هجرة غير شرعية". وهو ما يعني الكثير لعائلات خسرت كل ما تملك.
بدأت أولى دفعات المهاجرين العرب والمسجلة رسمياً، حوالي عام 1880م، وكانت تضم في غالبيتها لبنانيين. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 1900، وصل تعداد العرب في البرازيل إلى حوالي 5400 مهاجر، وكانوا يعرفون في ذلك الوقت باسم "تركوس" أي الأتراك لأنهم كانوا يحملون وثائق شخصية عثمانية. ليتضاعف الرقم حوالي عشر مرات في العقدين التاليين نتيجة تبعات الحرب العالمية الأولى، حيث وصل تعداد العرب في عام 1920م إلى حوالي خمسين ألف مهاجر على الأقل.
ولكن سرعان ما بدأت المصاعب بالظهور. قدمت الحكومة البرازيلية، وبشكل سريعٍ جداً، كل الأوراق اللازمة التي تؤهل اللاجئ قانونياً للعمل. هذا من الناحية النظرية، أما عملياً فهي لم تساعد اللاجئين في تأمين التأهيل الفني لتمكينهم من الدخول في سوق العمل بشكل جدي ومنافس. ولم تراع الجهات الحكومية البرازيلية حاجة هؤلاء لتعلم اللغة البرتغالية، اللغة الرسمية في البلاد. والتي لا يمكن لأي شخص التواصل مع الآخرين بدونها. وبمقارنة برامج الرعاية التي حصل ويحصل عليها اللاجئون في أوروبا بما هو متاح لهم في البرازيل فإنه يمكن القول بكل بساطة إنه لا يوجد برنامج رعاية لللاجئين في البرازيل! في الواقع، فإن الحكومة البرازيلية تصرفت لأول مرة مع "مهاجرين عرب" بوصفهم لاجئين، وقد يصح القول أنها تصرفت مع لاجئين بوصفهم مهاجرين.
فيما بعد، ومع من نهاية العام 2015 ازداد هذا الالتباس، خصوصاً بعد انتهاء مرحلة الإنجاز السريع لطلبات اللاجئين من سوريا، ليبدأ تمريرها عبر الإجراءات الروتينية والتي قد تمتد على مدار عامين. وأرخت الأزمة السياسية - الاقتصادية في البرازيل بظلالها على اللاجئين أيضاً لتزيد من بؤسهم بؤساً؛ ففقد البعض عمله الوظيفي نتيجة التسريح، وتأثر البعض الآخر ممن كان قد بدأ مشاريع صغيرة أومتناهية الصغر.
سجل أبناء الجاليات العربية العديد من النجاحات في مختلف المناحي في الحياة العامة في البرازيل. قد تكون الشخصية الأشهر اليوم هي الرئيس ميشيل تامر، فهي المرة الأولى التي يصل فيها برازيلي من أصل عربي إلى هذا المنصب، رغم وصول جوزيه ماريا الخمين، اللبناني الأصل، إلى منصب نائب الرئيس بين عامي 1964 و1967. فيما تقلد ذوو أصول عربية مناصب وزارية عديدة في مختلف الحكومات، ويشغل جيلبيرتو كساب منصب وزير العلوم والتقانة والاتصالات في الحكومة الحالية. وجيرالدو الخمين منصب حاكم ولاية ساوباولو، ويشغل فرناندو حداد منصب رئيس بلدية ساو باولو، المدينة الأهم في البلاد. ولا يستطيع أحد في البرازيل أن ينسى اسم باولو معلوف، المهندس والسياسي الشهير وأحد أهم حكام ولاية ساوباولو ورئيس بلدية مدينة ساوباولو لمرتين. وعمر عبد العزيز الحاكم السابق لولاية الأمازون والنائب الفيدرالي الحالي. هذا إلى جانب العديد من السياسيين كجميل مراد وجانديرا فغالي. والطبيب أديب جعيتاني والفيلسوفة مارينيلا شاوي ورجل الأعمال الشهير كارلوس غصن، إلى جانب الجغرافي عزيز عبد الصابر واللغوي أنطونيو حويص.
وفي ظل غياب برنامج الرعاية الحكومية، تقوم العديد من المنظمات غير الحكومية والكنائس والمساجد وجمعيات خيرية مختلفة بتقديم برامج رعاية للاجئين في البرازيل، ومن ضمنهم اللاجئون القادمون من سوريا. وتدرجت هذه الرعاية من دورات تعليم اللغة البرتغالية، إلى تأهيل فني لبعض اللاجئين أو تأمين التسويق اللازم لمشروعاتهم الصغيرة في أحيان نادرة. فيما تحملت الجاليات العربية القديمة بعض الجهد في حالات محدودة جداً أيضاً. وحالف الحظ البعض منهم وبالأخص من امتلك شهادة أكاديمية عالية. فيما تُرك الباقون ليعيدوا المسيرة التي اتبعها المهاجرون العرب السابقون. والذين لم تكن الدعوة الإمبراطورية لهم، تتعدى الترحيب بهم في بلاد دافئة.. مضيافة، وتتطلب كثيراً من الجهد لتأمين فرص العيش.. والنجاح.